سكينة جانسيز _ خزنة عيسى أحمد
“سكينة جانسيز”
ولدت سكينة جانسيز في عام 1957 في مدينة ديرسم (تونجلي)، حتى ندرك معنى المفارقة الكبرى بين اسمها الحقيقي “سكينة” وبين طبيعة شخصيتها غير الساكنة بل الثائرة والمتمردة، ولعل والديها أراد لها حياة هادئة مليئة بالسكون والنعيم والرفاه حتى أطلقا عليها هذا الاسم، لكن سكينة تشربت روح التمرد والعصيان والثورة على الظلم، ولم تكن سكينة مجرد ثائرة كردية، ولكنها كانت أيضا مناضلة أممية، تميزت دوماً بالإيمان الثوري والمعنويات وكانت جريئة في طرح أفكارها.
إن سكينة هي روح الحرية المزدهرة في هذه الأرض، ومسيرتها مسيرة الحرية والديمقراطية التي تعبر عن الأمس واليوم والغد، أنها مسيرة كل القيم الجميلة والفاضلة لحركة التحرر الكردستانية. وهي تمثل مجموعة إرث العدالة والحق والمساواة والوجدان والحرية والديمقراطية البارزة في كدح المرأة، والنابعة من هواء وماء وجذور هذه الأرض التي تمتد لآلاف السنين. أدركت سكينة في سن مبكر التناقضات تجاه الحقائق في وسطها الاجتماعي، فبدأت مسيرتها بالبحث عن الحقيقة لتصبح مرحلة الطفولة لديها عبارة عن مرحلة لتكوين وبناء الذات. انهت مرحلتها الدراسية بتفوق وبلغت المرحلة الجامعية لتكبر وتكبر معها التناقضات يوماً بعد آخر في ذهنها، ومنذ ذلك الحين تشبثت بفكر الاشتراكية والديمقراطية على الدوام.
تعتبر سكينة جانسيز من النساء اللواتي استطعن تحقيق التوازن بين رفض الخضوع والعادات والتقاليد البالية، والمحافظة على القيم المقدسة التي اكتسبتها من البيئة التي نشأت فيها. ظلت شامخة دوماً، لم تعرف الاستسلام، لكن لم تكن سكينة على صراع مع من حولها فقط بل ومع ذاتها أيضاً، حيث حاربت سكينة نقاط ضعفها، وتغلبت على نواقصها بكل جرأة. وقد عرفت منذ ريعان شبابها بعملها كناشطة في الشبكات اليسارية المؤيدة للقضية الكردية في تركيا، وبدأت مسيرتها بالانخراط في العمل ضمن المصانع والمعامل لتوسيع دائرة معرفتها بالشابات، وإيجاد الفرصة للنقاش معهن، وإرشادهن لطرق تنظيم الذات والتعرف على فكر القائد عبد الله أوجلان الذي أعطى في بداية النضال أهمية كبيرة للمرأة وقال “إذا انضمت من كل بيت امرأة ومن كل قرية امرأة إلى صفوف النضال فتصبح تلك القرية ثائرة. من خلال الانضمام إلى حزب العمال الكردستاني الذي تأسس من قبل 23 شخصاً من الناشطين الكرد عام 1978، فقد كانت واحدة من امرأتين من وضعن الحجر الأساسي ومن النساء اللاتي شاركن في تأسيسه، كما وشاركتا في مؤتمره التأسيسي. ومنذ ذلك الوقت تم التأكيد على أن حرية المجتمع من حرية المرأة.
نضال وكفاح سكينة جانسيز وفق مبادئ الحياة الندية وحقوق الشعب الكردي في وقت حرم فيه ذكر اسم أو نطق حرف باللغة الكردية، وبقاء الكرد تحت وطأة ظلم القوى السلطوية الظلامية المستغلة، عرضها خلال مسيرتها الثورية للكثير من المضايقات والاعتقالات على يد الحكومة التركية، كانت مقاومة السجون طفرة نوعية حددت ملامح الحزب، فقد تميزت سكينة جانسيز بوقفتها الأبية في سجن آمد العسكري السيء الصيت أمام شتى أنواع التعذيب والظلم الذي تعرضت له. لقد كانت من أوائل اللواتي قاومن تلك السياسة الوحشية، فتحولت إلى أسطورة بين رفاقها وشعبها على حد سواء. ورغم تجريمها لعضويتها في اللجنة المركزية واللجنة التأسيسية لحزب العمال الكردستاني، إلا انها دافعت عن نفسها سياسياً في المحكمة في كل مرة، بل وحثت رفيقاتها على المقاومة، فقمن بالتنسيق المشترك وبدأن الإضراب عن الطعام معاً، وخضن مقاومة جماعية.
قادت حركة احتجاج اندلعت في سجن آمد في الثمانينيات وعملت مع القائد عبد الله أوجلان في سوريا، بالإضافة إلى إنها قادت مجموعة من المقاتلات الكرديات في إقليم كردستان، وأصبحت لاحقاً مسؤولة للحركة النسوية التابعة لحزب العمال الكردستاني في أوروبا.
وتقول سكينة جانسيز عن فترة اعتقالها وتعذيب المعتقلين الكرد في سجن “آمد” كان الضابط أسعد أوكتاي يعرضنا جميعاً لشتى أنواع التعذيب، لكنني وقفت أمامه، وحدقت في عينيه اللئيمتين وبصقت على وجهه القذر. وقد ذاع صيت فعلها هذا واعتبرها الكثيرون أنها عملية جريئة للغاية في ظل التعذيب الذي يتعرضون له. كل تلك المحاولات باءت بالفشل أمام إرادتها بل وكانت تزيد من إصرارها على المقاومة، حيث كانت تنشر المرح بين رفاقها ورفيقاتها حتى داخل السجن، كي تخفف عنهم وطأة العذاب الذي يعانونه، ولم يقتصر نضالها في السجن مع رفاق نهجها فقط بل كانت تناقش وتحتك مع المساجين الآخرين، قائلة ” بهذا المجتمع يجب كسب الجميع، وتعريفهم على حقيقة التنظيم”.
تمكنت سكينة جانسيز مع رفاقها من إصدار مجلة تتناول تاريخ كردستان، وتعريف حركة pkk، استطاعت هذه المجلة أن تتبوأ بمكانة مميزة لها بين المجلات التركية، إلا أنه في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر عام1988، اكتشف أمر مجلتهم فتم معاقبتها مع 130 شخصاً وتم نفيهم إلى سجن أماسيا في آمد.
ألفت سكينة جانسيز ثلاث مجلدات ضخمة تحت اسم “حياتي كلها صراع” وأنهت تدوينه في نهاية التسعينيات من القرن الماضي.
في مذكراتها تروي سكينة جانسيز ما تعرضت له أثناء الاعتقال، إلى جانب قصص الاستجواب والإضراب عن الطعام ومحاولتها الهروب من السجن ومقاومتها، ومن خلال يومياتها قدمت صوراً حية لرفاقها من السجناء والمقاتلين. وشكلت مذكراتها مصدر إلهام لليسار التركي في الثمانينيات من القرن الماضي، ويعد كتاب حياتي كلها صراع الذي كُتب باللغة التركية وترجم إلى اللغة الكردية، الصادر عن ” بلوتو برس ” أول مذكرات سجن تصدرها امرأة كردية تنشر باللغة الإنكليزية، وقد وصفتها الصحافة بأنها” وثيقة غير عادية لحياة غير عادية” وقد نشرت نسخ الكتاب في أرجاء كردستان ودول أخرى. وفي عام 2016تم إعداد فلم وثائقي عنها، ومؤخراً تعمل الكاتبة الكردية بشرى علي على ترجمة السيرة الذاتية إلى العربية متخذة على عاتقها التاريخ لمسيرة المرأة الكردية ونضالاتها.
وقد عمل عدد من الفنانين والسينمائيين في إقليم كردستان على تحول قصة نضال سكينة جانسيز في سجن آمد إلى فلم قصير، يسلط الضوء على وقائع حقيقية لمقاومة القيادية الأولى.
كافحت الحركات النسائية لوقت طويل من أجل إنهاء العنف بحق سكينة جانسيز وسعت لنيل حقوقها المشروعة، بما فيها التغلب على الممارسات الوحشية التي فرضتها الأنظمة الرأسمالية، فالمرأة الكردية لها باع طويل في هذا النضال. فسكينة جانسيز تعد من أوائل النساء اللواتي خلعن ستار التقاليد وكسرن حاجز الصمت لتطلق على ذاتها الاسم الحركي ” سارة” ولتتوجه بإرادتها القوية نحو هدفين أساسيين لتحرير النساء وبناء الحياة وكردستان الحرة، لقد كانت سكينة جانسيز مؤثرة جداً بوقفتها، تنظيمها، معرفتها وشخصيتها. حيث قامت سكينة بتنظيم عدد من الشابات في مدة قصيرة، وطورت معهن العلاقات بشكل قوي حيث حولت أفكارهن من الحياة البسيطة نحو السياسة والحياة المليئة بالمعاني، وبثت روح البحث عن الحقيقة في داخلهن. كما وكانت شخصية دبلوماسية محنكة في الدول الأوروبية، وناشطة تنظيمية في مدن كردستان، وفيلسوفة في نظرتها للحياة بشأن كل نساء العالم.
استشهاد المناضلة سكينة جانسيز
في عام 2013 يناير، تم استشهاد ثلاثة ناشطات ومناضلات من حزب العمال الكردستاني إحداهن سكينة جانسيز، وفيدان دوغان، وليلى سيليماز، إثر إصابتهن برصاصات في الرأس، واستشهدوا في باريس في مركز الإعلامي الكردي
وقد تبين أن القاتل ” عمر كوناي” عضو فاعل في الاستخبارات التركية “الميت”، وإنه كلف باغتيال سكينة جانسيز بتعليمات مباشرة من أردوغان وبتخطيط وإشراف مباشر من حقان فيدان رئيس جهاز المخابرات التركي “الميت التركي”، وأخفى القاتل شخصيته من خلال مشاركته في نشاطات “الجمعية الكردية” في فرنسا بتمويه نفسه ولتسهيل مهمة الاغتيال.
ولكن اغتيال سكينة جانسيز ورفيقاتها لم يكثر بل زاد من عزيمة نضال حركة التحرر الكردستاني في سبيل الحرية، وضاعف من قيمتها المعنوية، حيث تحولت روح الحرية التي تميزت بها سارة إلى نضال لحركة التحرر الكردية ومحفزاً لها على المقاومة والصمود أكثر. ذلك لإن كل شهادة في هذه الحركة يزيد من إرث المقاومة ويعزز روح الصمود لديها.
ووارى جثمان الشهيدة سكينة جانسيز الثرى في مسقط رأسها ديرسم، وسط مراسيم مهيبة حضرها عشرات الآلاف من أبناء وبنات الشعب الكردي ومن أصدقائهم من مختلف الشعوب في تركيا والعالم.، وقد حمل نعشها النساء اللواتي طالما ناضلت من أجلهن، وقد دوى نبئ استشهاد سكينة جانسيز التي اهتدت بنضال روزا لوكسمبورغ وغيرها من المناضلات الأمميات في العالم أجمع.
وقد سارت الآلاف من المناضلات الثوريات على هدى فلسفة سكينة جانسيز “سارة” في سبيل تحقيق أهدافها في تعزيز حياة حرة وكريمة مبنية على السلام المستدام.