سوريا من الاستبداد إلى فوضى التحرير
سوريا اليوم بلد يتشكل من جديد ذلك بعد أكثر من أربعة عشر عامًا من الثورة السورية، ومرور ما يقارب خمسة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، تقف سوريا اليوم أمام مفترق طرق حاسم، محملةً بإرث من الخراب السياسي والاجتماعي، ومثقلة بواقع اقتصادي هش، وانقسامات داخلية عميقة. لم يكن سقوط الأسد مجرد نهاية حقبة، بل إعلانًا عن بداية مرحلة جديدة، تتداخل فيها خيوط القوى الدولية، والفواعل المحلية، والتحديات الهيكلية التي تواجه إعادة بناء الدولة السورية.
إرث نظام الأسد ومقدمات الانفجار
لقد مارس نظام الأسد الأب، ومن بعده الابن، لعبة الخداع السياسي بمهارة، متسترًا وراء شعارات المقاومة والممانعة، فيما كان يمارس تدخلًا سافرًا في الشؤون الإقليمية، كما في لبنان (1976 – 2005)، ويتقن تعطيل أي عملية سلام جادة، كما ظهر في التسعينيات. وعندما تولى بشار الأسد السلطة عام 2000، أطلق وعودًا بالإصلاح والانفتاح فيما عرف بـ “ربيع دمشق”، لكن سرعان ما قوبلت هذه المبادرات بالاعتقالات والنفي، لتستمر الدولة الأمنية في إحكام قبضتها حتى اندلاع الثورة عام 2011.
سقوط النظام وتحولات خارطة القوى
سقوط نظام الأسد لم يكن نتاج عمل داخلي خالص، بل جاء نتيجة تفاهمات إقليمية ودولية معقّدة. إن وصول هيئة تحرير الشام إلى دمشق دون مقاومة يُفهم في سياق هذه التفاهمات. وتحول شخصية “الشرع”، من مبايعة البغدادي إلى الانفتاح على الغرب، يعكس إعادة تدويرٍ لأدوار سياسية تخدم ترتيبات جديدة في المنطقة، قوامها الحفاظ على التوازنات الجيوسياسية، وضمان المصالح الغربية، كما هو واضح في سياسات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
السلطة الجديدة وأزمة الخطاب المركزي
رغم تغيير القيادة، لم تتغير بنية السلطة في دمشق. النظام الجديد، وإن جاء من رحم المعارضة، إلا أنه يتبنى خطابًا مركزيًا إقصائيًا، قائمًا على اللون الواحد والفكر الواحد. المفارقة أن غالبية القادة الجدد هم من أبناء الشمال السوري، ممن لم يهربوا أو يغادروا البلاد، متذرعين بالثبات والصمود. إلا أن التعامل مع الكفاءات السورية العائدة من الشتات كان سطحيًا، إذ لم تظهر إرادة حقيقية لاستيعاب الطاقات الجديدة أو إشراكها في إدارة الدولة، مما أعاد إنتاج نفس عقلية التنظير والتهميش.
الخارطة الإقليمية والدولية للمصالح في سوريا
المشهد السوري اليوم ليس فقط محليًا، بل تتحكم به قوى خارجية تتنافس على مناطق النفوذ: روسيا، أمريكا، تركيا، إيران، فرنسا، وبريطانيا. وفي الداخل، لا تزال الفصائل العسكرية تفرض ذهنيتها الفصائلية، التي تُعد عقبة أمام بناء دولة حديثة. هذا الوضع المعقّد يجعل من المستحيل رسم ملامح واضحة لمستقبل سوريا، لأن كل مرحلة تُفرَض وفق ميزان القوى الدولية، لا وفق إرادة الشعب السوري.
فرص الحل والتحول الديمقراطي
رغم الصورة القاتمة، لا تزال هناك بارقة أمل تُطل من شمال شرق سوريا، حيث ظهرت تجربة الإدارة الذاتية كأحد النماذج الممكنة نحو إعادة بناء سوريا ديمقراطية، تشاركية، تعددية. لا يمكن تصور حل مستدام دون:
انتقال سياسي شامل يضمن مشاركة كافة المكونات السورية.
مصالحة وطنية حقيقية ترتكز على العدالة الانتقالية لا الانتقام.
تحجيم النفوذ الإقليمي والدولي الذي يعمق الانقسامات.
تبني خطاب وطني علماني تعددي يعيد للسوريين ثقتهم بوطنهم.
ختاماً سوريا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: الخيار الاول الاستمرار في الدوران ضمن حلقة النفوذ الخارجي والتشرذم الداخلي سيؤدي ذلك الى استمرار الانقسامات ستبقى سوريا في حالة صراع دائم حيث الانتقام الا متناهي
الخيار الثاني تبني نهج وطني ديمقراطي جامع، يعترف بكل المكونات، مع إشراك المجتمع المدني، والنخب الفكرية، وتفعيل دور المرأة والمكونات القومية والدينية، قد يكون مفتاح الانطلاق نحو سوريا جديدة، كما أن المستقبل السوري سيبقى مفتوحًا على كل الاحتمالات.