أكاديمية المجتمع الديمقراطي

إعادة بناء الإنسان السوري

80

إعادة بناء الإنسان السوري

في خضم الحديث المتكرر عن إعادة إعمار سوريا بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب، غالبًا ما يتم التركيز على الأبنية المهدّمة، البنية التحتية، والاقتصاد المنهار. غير أن هذه المظاهر المادية، على أهميتها، تبقى سطحية أمام الكارثة الحقيقية التي أصابت سوريا: انهيار الإنسان نفسه. لقد تعرض الإنسان السوري، خلال سنوات الحرب، لأكبر عملية تدمير ممنهجة لبنيته النفسية والاجتماعية والثقافية. ولهذا، فإن الإعمار الحقيقي لا يبدأ بالإسمنت، بل بإعادة ترميم الوعي والقيم والبنى المجتمعية. فبغير إعادة بناء الإنسان، لن يكون لأي إعمار عمراني معنى.

فإن لم يتم تحرير الإنسان من منظومة الهيمنة الذهنية، فلن يكون لأي تحرير مادي معنى. فالهدم الحقيقي يبدأ من الداخل.

أولًا: الإنسان السوري في قلب الأزمة

لم يكن الإنسان السوري مجرد ضحية للحرب، بل كان مركزها، ميدانها، وأحيانًا أداة فيها. عايش السوريون تجارب الفقد، النزوح، التهجير، المجازر، والتهميش، ما أدى إلى تآكل الروابط الاجتماعية التقليدية، واهتزاز الثقة بين الأفراد، وبينهم وبين المؤسسات.

انقسم المجتمع إلى طوائف، إثنيات، ولاءات سياسية متنافرة. الأسرة، التي كانت الخلية الأساسية في بنية المجتمع، تفككت تحت ضغط الحرب والفقر والنزوح. كما نشأ جيل كامل من الأطفال لم يعرف السلام قط، عاشوا طفولتهم في خيام اللجوء أو تحت القصف، محرومين من التعليم والتوازن النفسي، ما خلق فجوة في الذاكرة الجمعية والهوية الوطنية.

تشير تقارير الأمم المتحدة (UNHCR, 2023) إلى أن أكثر من 6.5 مليون طفل سوري يعانون من نقص في التعليم والدعم النفسي، مما يشكل أزمة جيل تهدد مستقبل البلاد.

يقول الطبيب النفسي السوري د. أحمد العيسى: الصدمة التي عاشها المجتمع السوري ليست فردية، بل جمعية، وتحتاج إلى مقاربة شمولية للعلاج.

ثانيًا: إعادة الإعمار المادي مقابل الإعمار الإنساني

إن الحديث عن إعادة الإعمار في سوريا غالبًا ما يُختزل في مشاريع عمرانية كإعادة بناء البيوت، الطرقات، وشبكات الكهرباء. وهذه بالطبع ضرورية، لكنها عاجزة عن إصلاح الضرر العميق الذي أصاب بنية الإنسان. ما فائدة مدينة جميلة من الخارج يسكنها بشر محطمون من الداخل؟

الإعمار المادي وحده لا يكفي إذا لم يُرافقه مشروع متكامل لإعادة بناء الثقة، القيم، والعلاقات الاجتماعية. بدون ذلك، سيكون أي إعمار هشًا، معرضًا للانهيار مجددًا أمام أول أزمة، أو قابلًا لإعادة إنتاج نفس الأنظمة السلطوية والعنفية التي فجّرت الصراع.

يرى الفيلسوف إريك فروم أن المجتمعات التي تُعمر ماديًا دون ترميم الروح والقيم، تنتج إنسانًا آليًا فاقدًا للهوية، وهو ما ينطبق على كثير من نماذج الإعمار السريع التي فشلت في دول خرجت من الحروب.

ثالثًا: ما المقصود بـإعادة بناء الإنسان؟

إعادة بناء الإنسان تعني العمل على استعادة إنسانيته، قدرته على التفكير، حريته الداخلية، وحسه الأخلاقي والاجتماعي. ويشمل ذلك:

  1. إصلاح التربية والتعليم

لا يمكن بناء مجتمع سليم بعقلية موروثة من الخوف والطاعة العمياء. لذلك، يجب إصلاح المناهج التعليمية لتغرس قيم التفكير النقدي، قبول الآخر، والمواطنة المتساوية، بدلًا من التلقين والتعصب.

يقول أوجلان: التعليم الذي لا يحرر العقل هو شكل آخر من السجن.

وتشير منظمة أنقذوا الأطفال (Save the Children) إلى أن 40% من الأطفال السوريين خارج النظام التعليمي، مما يعزز خطر الانحراف والتطرف.

  1. الدعم النفسي والاجتماعي

الصدمة الجمعية التي عايشها السوريون تحتاج إلى استراتيجيات ممنهجة للشفاء، من خلال توفير مراكز دعم نفسي، تدريب كوادر، وإعادة دمج الناجين في الحياة الطبيعية.

تشير دراسة لمنظمة الصحة العالمية (WHO, 2022) إلى أن نسبة الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة بين السوريين بلغت مستويات كارثية، خصوصًا بين الأطفال والنساء.

  1. العدالة الاجتماعية

الفقر والتمييز واللامساواة كانت من أبرز أسباب النزاع، ويجب معالجتها لضمان إعادة توازن المجتمع. ذلك يشمل توفير فرص العمل، الخدمات، والعدالة في توزيع الموارد.

يكتب عالم الاجتماع بيير بورديو أن غياب العدالة يولد أشكالًا من العنف الرمزي تؤسس لانفجارات مستقبلية، وهو ما يظهر بوضوح في المناطق التي تعاني من التهميش التاريخي في سوريا.

  1. تعزيز ثقافة الديمقراطية والتعددية

بناء إنسان حر يعني بناء مجتمع قادر على التعدد، التسامح، والحوار. وهذا يتطلب إعادة تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي بعيدًا عن الطائفية والاستبداد.

في خطاب له، قال المفكر السوري صادق جلال العظم: لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين، ولا مواطنة بدون وعي جمعي يتجاوز الطائفة والقبيلة.

رابعًا: دور الفاعلين في إعادة بناء الإنسان

  1. المجتمع المدني

للمنظمات المحلية دور حيوي في دعم المجتمعات المحلية، خلق مبادرات لبناء السلام، دعم النساء والشباب، وتطوير المهارات المجتمعية.

يقول أوجلان: المجتمع الحي لا ينتظر الدولة، بل يبادر ببناء حياته الديمقراطية بنفسه.

تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تمثل نموذجًا، حيث لعبت الكومينات والمجالس دورًا محوريًا في تعزيز التماسك المجتمعي والتعليم الشعبي.

  1. الإعلام

يجب أن يتحول الإعلام من أداة تعبئة وتحريض إلى مساحة لنشر الوعي، سرد قصص الناجين، وتعزيز قيم الحياة المشتركة.

الباحثة السورية رنا الجندي تؤكد أن الإعلام السوري بعد 2011 أعاد إنتاج الانقسام، بدلًا من المساعدة في رأب الصدع الاجتماعي.

  1. المؤسسات التربوية والدينية

هذه المؤسسات، إذا أُصلحت، يمكن أن تكون منابر للسلام والمصالحة، عبر خطاب ديني وإنساني يرفض العنف ويعزز التآلف.

يكتب المفكر الإيراني علي شريعتي: إما أن يكون الدين أفيونًا يكرّس الظلم، أو وعيًا يحرّك الشعوب نحو التحرر.

  1. الدولة والمنظمات الدولية

تقع على عاتق الدولة مسؤولية كبرى في صياغة سياسات عادلة وشاملة، بالتعاون مع شركاء دوليين يدعمون برامج إعادة التأهيل المجتمعي وليس فقط المشاريع الهندسية.

يشير تقرير البنك الدولي (2023) إلى أن خطط إعادة الإعمار في سوريا لن تنجح دون مشاركة المجتمعات المحلية وتلبية احتياجاتها الاجتماعية.

  1. المرأة: الفاعل التأسيسي في إعادة بناء المجتمعات

    ليست المرأة فقط ضحية للحروب والنزاعات، بل هي في قلب عمليات الصمود، والرعاية، وإعادة النسيج الاجتماعي. لعبت النساء، في مختلف السياقات السورية، أدوارًا محورية في التعليم البديل، الرعاية المجتمعية، وحفظ السرديات التاريخية.
    في نموذج الإدارة الذاتية، ساهمت المنظمات النسائية، مثل مؤتمر ستار، في بناء مجالس نسائية مستقلة، وإنشاء محاكم مجتمعية، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للناجيات من العنف.
    تقول المناضلة الكردية الشهيدة ساكينة جانسز:

المرأة الحرة قادرة على تغيير المجتمع، لأنها تغيّر معنى الحياة ذاتها.
إن إعادة بناء الإنسان تبدأ من تحرر النساء، ومن الاعتراف بقدراتهن كصانعات للسلام، ومعلمات للأجيال، وراويات للتاريخ من منظور الحياة لا من منظور الحروب.

خامسًا: التحديات والفرص

لا شك أن طريق إعادة بناء الإنسان محفوف بالتحديات: استمرار الانقسامات، غياب الإرادة السياسية، ضعف التمويل، وعمق الجراح المجتمعية. ومع ذلك، فإن وجود طاقات شبابية مبدعة، ومبادرات مجتمعية محلية أثبتت فعاليتها، بالإضافة إلى إمكانية الدعم الدولي، يمنح الأمل في إمكانية التغيير.

لقد برزت في السنوات الأخيرة مبادرات يقودها شباب سوريون يعملون على التعليم غير الرسمي، دعم المرأة، وبناء الحوار بين المكونات المختلفة. هذه المبادرات تشكل نواة لإعادة بناء مجتمع سوري جديد يقوم على الكرامة، الوعي، والمشاركة.

رغم التحديات، فإن مبادرات مثل بوابة المرأة في قامشلو، وشبكة شباب سوريا في إدلب، أثبتت أن التغيير ممكن من القاعدة، وأن الإنسان السوري ما زال قادرًا على النهوض إذا أُتيحت له المساحة.

خاتمة

لن تنهض سوريا بالحجارة وحدها، بل بترميم الإنسان الذي تهشّمت روحه وأُطفئت أحلامه. إن الأولوية يجب أن تكون لبناء إنسان حر، ناقد، متوازن نفسيًا، ومدرك لحقوقه وواجباته. من دون هذا، سيكون أي إعمار عمراني مهددًا بالانهيار، بل ربما سيكون إعادة إنتاجٍ لصروح القمع بأشكال جديدة.

الإنسان السوري هو مفتاح المستقبل، وإذا لم نبدأ بإعادة بنائه، فلن يكون هناك مستقبل يستحق أن يُبنى. كما قال الفيلسوف فرانز فانون: كل ثورة حقيقية هي ثورة في الإنسان أولًا.

لذلك، إن لم نبدأ بإعادة إعمار الإنسان السوري، فإن كل بناء فوق الأنقاض سيكون مجرد طلاء هش على جراح لم تندمل.