أكاديمية المجتمع الديمقراطي

خطاب لشعوب مضطهدة – خالد إبراهيم

إعداد: خالد إبراهيم

1٬163

خطاب لشعوب مضطهدة

 

حين نقلب أعيننا بين طيات الكتب التي تناولت تاريخ المنطقة، بل حين نشاهد الواقع نجد التشابه الدقيق المدروس في النهج الذي اتبعته الدول الاستعمارية في المنطقة الممتدة من الهند وإندونيسيا مرورا بالشرق الأوسط فأفريقيا.

وحين نقرأ أو نسمع من أجدادنا الممارسات التي عملوا عليها في تلك البلاد أو بالحري القول: بلادنا نلاحظ أوجه الشبه في النتائج التي لا نزال في حاضرنا نعاني منها. فالاستعمار _ورغم أنها كلمة دخيلة غير دقيقة فيجب أن نسميه (الاحتلال)_ حرص أن يقسم المناطق التي وقعت تحت سيطرة وأن يعيد الشعوب للتنازع باسم الطائفية والمذهبية والقومية، والدولة الرأسمالية البريطانية تصدرت المشهد في ذلك منذ العصور الوسيطة للقرن الماضي، كما حرصت فرنسا الرأسمالية في دول الشرق الأوسط وإفريقيا. ولا بد من الاعتراف بنجاحهما في ذلك مستغلين الفجوة الكبيرة التي أحدثها العثمانيين طوال الأربعمائة سنة التي حكموا فيها بلادنا من الشرق الأوسط لشمال إفريقيا.

وحين اطلعت وقرأت ما ذكره كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر رأيت أن أنقل كلامه وأحلله من وجهة نظر المحلل السياسي الفلسطيني تميم البرغوثي ليدرك هذا الشعب أن سياسة الاستعمار واحدة وإن اختلفت ظاهريا وأن أهدافهم أبعد ما تكون عن الاحتلال العسكري المباشر فقط، ولعل ما نراه اليوم في العراق وأفغانستان وسوريا وغيرها هو خير دليل لما سأذكره في بقية الخطاب. كما سنجد أن أمريكا انتهجت الخطة الاستعمارية ذاتها في الشرق الأوسط. وإن كان كرومر بريطانيا فهو بالتأكيد يتكلم بلسان كل الدول الاستعمارية وأبرزها بالطبع أمريكا كونها وليدة بريطانية رأسمالية بامتياز.

وما يميز هذا الخطاب أنه كُتب بلغة سياسية أدبية تحليلية بحتة فيجب أن يتناوله القارئ بهذه الصيغة كي يتمكن من استيعابه واستخلاص نتائج تمكنه من دعم نظرته السياسية التحليلية مستقبلا، بشكل يمكنه من تنبيه نفسه أولا ومن حوله ثانيا بنية المستعمر الثابتة في جوهرها وإن اختلفت ظاهريا.

 

لقد علَّمونا أنَّ الاستقلال عكس الاستعمار؛ فلماذا نشعر في أحيان كثيرة أنَّ استقلالنا هذا نوع من الاستعمار، ولماذا تشبه علاقة أكثر شعوب المنطقة بأجهزة الأمن علاقة الفلسطيني مثلا بجيش الاحتلال الإسرائيلي. إنَّ هذا الاستقلال ليس إلَّا استعماراً بأيد محلية، وهذا ليس مجرد رأي، بل صرَح بذلك كبار ضباط الاستعمار الكلاسيكي البريطاني والفرنسي في بلادنا منذ مائة عام، نعم، المستعمر يريد استقلالك بل هو يريد استقلالك جدا، لكنَّه يريد استقلالك عن أخيك ليستفرد بك وبه، فالمستعمر يخلق لك أوطانا لك، يرسم حدودها ويبني بيروقراطياتها، وجيوشها وشرطتها بما يضمن انكشافها العسكري أمامه، وتبعيتها الاقتصادية له، ثم يختار من نخبك طبقة من الناس تكون وسيطا بينك وبينه؛ تتعاون معه في تأمين مصالحه مقابل منحه إياها قدرا من السلطة، فتقوم مقام الاحتلال وتحل محله، وتقول قوله وتفعل فعله، ولكن بأيد سمراء ووجوه مألوفة (القصد هنا هو أبناء الشعب ذاته؛ أي السحنة العامة لشعوب الشرق الأوسط)، وما إن يمنح الغازي السلطة لهؤلاء يصبح أيُّ كلام عن وحدة بينهم وبين جيرانهم من أهلهم خطرا لسلطتهم. وبهذا القياس تتطابق مصالح النخب الحاكمة، التي يسلمها الغازي السلطة في بلادنا، مع مصلحته، وتسلك الدولة المستقلة التي أنشأها سلوك المستعمرة، بل إنَّ سلوكها كمستعمرة يكون شرط استقلالها أصلا، وتصبح الدولة الجديدة تلخيصا واختصارا لشعبها، قيدا يرتهن الناس لغزاتهم بدلا من أن يحررهم، سلاسل من خوف وجوع تقسم الأمة ثم تضم كلَّ قسم منهم في حُزمٍ لا تقويهم بل تمنعهم من النمو؛ فهل رأيت نباتا ينمو في الطبيعة مربوطا في حُزم أو مربوطا في علب؟ وهل رأيت فاكهة مجففة معلبة تنمو وتعيش؟

الدولة علبة، هي سرير الحداد الأسطوري (داماستيس) واسمه باليونانية المُخضع أو المُجبر، الحدادِ الذي كان يُنيم الناس على سرير من حديد، فإن كانوا أطول منه قطع أطرافهم، وإن كانوا أقصر منه خلع أكتافهم حتى يصيروا على قياسه.

وبعد أن يرسم لك الغازي حدود أوطانك ويلون لك أعلامك ويملي عليك سلوكك بحيث تظل مستعمَرا حتى بعد استقلالك يخلق لك الغازي وطنيات أيضا، فيأمرك أن تحب هذه الحدود والرايات والجيوش، أن تقدس سجنك وتغني له، أن تعشق العلب التي أنشاءها لمصلحته هو لا لمصلحتك؛ فتكون أوطانا سيادتها علامة استعبادها، واستقلالها امتداد لاحتلاها، ولم يكن الأمر مؤامرة أو خديعة؛ القوم يقولون ذلك منذ أن جاؤوا.

اسمع ماذا يقوله اللورد (إيفلينك بيري) المعروف بتاريخ مصر بـ (اللورد كرومر) الحاكم الفعلي للبلاد أيام الاحتلال البريطاني، فبين عامي 1877 و1907م حكم الرجل مصر كمراقب بريطاني على ماليتها ثم كمندوب بريطاني سامٍ، وكتب كتابا وضع فيه خلاصة رأيه بشأنها أسماه، ويا للمفارقة، (مصر الحديثة) يقول فيه:

” إنِّي وإن كنت لا أغامر بالتنبؤ الذي سنحققه في نهاية المطاف إلَّا أنَّني لا أتردَّد في إبداء الرأي في الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه، فبتقديرنا ثمة بديلان لا غير؛ إمَّا أن تصبح مصر في نهاية المطاف مستقلة، أو أن تُضمَّ إلى الإمبراطورية البريطانية، شخصيا أنحاز بثقة إلى البديل الأول؛ كل ما علينا فعله هو أن نخلِّف وراءنا حكومة جيدة إلى حد ما، وقوية، والأهم من هذه وتلك مستقرة؛ لتمنع الفوضى والإفلاس، فتحول بذلك دون أن تصبح المسألة المصرية مصدر إزعاج لأوربا مرة أخرى. لا يجب علينا أن نفحص بدقة متناهية مثل أعمال هذه الحكومة؛ فهي لكي تحفظ استقرارها لابد من إطلاق يدها في بعض الأمور، حتى وإن كانت ستستخدم مثل هذه الحرية بطرق لا تروق لنا أحيانا، إلَّا أنَّه من الأساسي أن يكون على هذه الحكومة بعد جلائنا أن تعمل بمبادئ متوافقة مع الخطوط العريضة لمتطلبات الحضارة الغربية. إنَّ الفكرة التي كانت في وقت من الأوقات محل تأييد بعض شرائح المجتمع البريطاني، والقائلة بترك مصر لتنضج في مائها؛ أي تُترك وشأنها، وأَّنه مهما زاد الارتباك والفوضى الداخلية فيها فلن يكون هناك ضرورة للتدخل الأوربي، هذه الفكرة يجب أن تُنحَّى جانبا على الفور؛ فهي غير عملية بالمرة؛ إنَّه لمن العبث والسخف الافتراض بأنَّ أوربا ستقف موقف المتفرج السلبي بينما تتأسس في مصر حكومة رجعية مبنية على مبادئ (محمدانية) (إشارة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام وأتباع شريعته) خالصة وطغيان شرقي متهالك”.

إنَّ مشكلة كرومر مع (الطغيان الشرقي المتهالك، الذي يذكره هذا، والمبادئ (المحمدانية) كما يسميها بين قوسين لم تكن بسبب انحيازه لحقوق المرأة مثلا؛ فالرجل أصبح رئيس جمعية معارضي إعطاء النساء الحق في التصويت عندما عاد إلى بريطانيا، إنَّما كانت مشكلته في انَّ هذه الشرقية والمحمدانية تُوحد مصر مع محيطها؛ فتجد بريطانيا العظمى نفسها مطرودة من قناة السويس، وترى دولة عظمى ممتدة من وسط أسيا حتى حدود المغرب الأقصى، تعوقها عن الوصول إلى الأسواق الكبرى في الهند، ومناجم الذهب والماس في إفريقيا، ولا يخفى على كرومر أنَّ البريطانيين لو عزلوا مصر عن محيطها ثم تركوها لأهلها فإنَّ الميل الطبيعي لأهلها هؤلاء هو إحياء ما اعتادوا عليه لألف سنة؛ وهو إيجاد نوع ما من التكتل الإقليمي مع أهلهم من سائر الأمة، وهو ما لا يريده؛ لذلك يقول كرومر:

“ما يعنيه الأوربيون عندما يتكلمون عن الحكم الذاتي المصري هو بعيد عن السماح للمصريين باتباع ميولهم غير المُصلَحة، بل يعنون بأن يُسمح لهم بأن يحكموا أنفسهم بالطريقة التي يرى الأوربيون أَّنَّهم يجب أن يُحكموا بها”.

ويستفيض كرومر في فصل طويل من كتابه عنوانه: (القاطنون بمصر) في تقسيم أهلها إلى فئات؛ فمنهم الفلاحون ورجال الدين ومُلَّاك الأراضي والأتراك المتنصِّرون ثم المتفرِّجون، ويختار هؤلاء الأخيرين ليكونوا وكلاءه ثم خلفاءه في حكم البلد، على أن يحضوا ببعض المقبولية والشرعية بين الناس، ثم يصف حلفاءه هؤلاء فيقول بعنصرية صريحة:

“هناك بارقة أمل واحدة تربط بين الجنسين؛ الجنس الأوربي والجنس المصري، ما إن تشرح للمصري ما عليه أن يفعله فإنَّه سيفهم الفكرة بسرعة؛ هو مُقلِّد جيد، سينجز نسخة أمينة، وفي بعض الأحيان مطابقة أكثر من اللازم لعمل راعيه الأوربي، قد تكون حضارته مجرد قشرة خارجية لكنَّه مستعد أن يقبل لغة الأنظمة الإدارية الأوربية ورطانتها وإن لم يفهم روحها ومعناها، صحيح أنَّ حركاته، في معظم الأحيان، تكون حركات إنسان آلي؛ لكنَّ إنسانا آليا مصنوعا بمهارة قد يقوم بأعمال مفيدة كثيرة. إنَّ الخاصية في الشخصية المصرية لها أهمية عظيمة بالنسبة الى إدارة البلد”. (كرومر 579)

إذن؛ فالبلد المستقلة التي يريدها كرومر ومن خلفه المحتل من البلاد التي احتلها الأوربيون أن تكون إنسانا آليا مصنوعا بمهارة، جهازا تم تدريبه وتعليمه من قبلهم، وستشعر بالعرفان تجاههم؛ فهم يحتاجون في إدارة البلاد لأشخاص وطنيين محليين بالولادة وأوربيين بالثقافة يكونون دمىً آلية تُحكَم البلاد كلها بهم؛ فتكون البلاد كلها بهم دمية آلية.

لن بعرض عليك المحتل إلَّا احتلالا متنكرا باسم الاستقلال، بحيث يكون احتلالا أرخص له وأقفل عليك، وإذا كنَّا على أبواب اتفاقات واتفاقيات جديدة يخلق لنا بها الاستعمار الجديد أوطانا جديدة، بحدود يرسمها وسياسات يمليها، فلنتذكر لكيلا نتحول كلنا إلى شعوب من الدمى الآلية. (تميم البرغوثي، الشاعر والدكتور المحلل السياسي)

 

 

الشاهد هنا أنَّ الاستعمار واحد؛ بسياسته ومنهجه وفكره وطرقه، والذي اتبعته بريطانيا في البلاد التي احتلها هو التبعية بأشخاص عملاء سلمتهم زمام أمور تلك البلاد، خاصة الشرق الأوسط، وحين ذكرت مصر وكرومر كان القصد التبيين والتفصيل الدقيق للوحدة التاريخية لكل مستعمر حكم هذه البلاد وفعل ما فعل في شعوبها.

وحين نطَّلع في تفاصيل ما نعيشه اليوم في شمال وشرق سوريا نجد ما ذكرناه سابقا حقا وبصورة عالية الدقة؛ فلم يزل الحُكَّام بالوكالة لهذه البلاد يجرون لها الويل والفساد والفتن والحروب، والخيانة التي نجدها من قبل نخبنا الحاكمة تجاه أراضينا وشعوبنا والعمل لتقسيمهم ونهب ثرواتهم لصالح الدول الرأسمالية كأوربا وأمريكا هي التفسير العميق لما قاله كرومر منذ أكثر من قرن من الزمن.

ومن هنا لابد أن نحيط شعبنا بثقافة وطنية شعبية ووعي سياسي دقيق لما حصل في الماضي كي لا يقع في نفس الأخطاء التي وقع فيها أجدادنا، وكي يدركوا أن الحكام في هذا الوقت ما هم إلا لعب بيد الرأسمالية العالمية، ويجب الالتفاف حول بعضنا لنستطيع نزع سهامهم المسمومة التي غرسوها فينا، وأفكارهم ومناهجهم الهدامة التي تشربت فينا منذ أكثر من قرن من الزمن.

يجب أن يدرك شعبنا بكل فئاته ومكوناته أنَّ القائد أوجلان حين وضع منهجه الفلسفي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كان مدركا بعمق لخطر الرأسمالية وما جرته من ويلات لشعوب المنطقة والتي لا تزال تعاني منها، فخلص أنه يجب أن يكون هناك منهج ثقافي سياسي ديمقراطي حقيقي يحارب فكرة الرأسمالية ورجالها ومن يدعمها ويمتثل لها، خاصة من النخب الحاكمة في هذا الوقت، فتأكد حقيقة بأنَّ الإدارة الذاتية والأمة الديمقراطية هي أنجع وسيلة لنمارس استقلالنا الفعلي الحقيقي الكامل عن محتلينا السابقين ووكلائهم الحاليين الذين يحاولون تقويض إدارتنا وهدمها.

ونحن في هذا الأمر نبين ما يجب تجنبه وما يجب القيام به كي لا نكون مستقلين بالاسم فقط، وكي نحقق طموحات الشعوب ونحرر ما بقي من أراضينا المحتلة.