إنكار الذات خيانة عظمى
يذكر القائد عبدالله أوجلان في أحدى خطاباته مع الرفاق عبارة ” إنكار الذات خيانة عظمى”. استوقفتني هذه العبارة كثيراً لما تحمله في طياتها الكثير من المعاني والشرح الواضح والصريح، ولذلك احببت أن أكتب عن هذه العبارة مقالةً، وقد تكون بأسلوب فلسفي لأن كل واحد فينا قد يفسر هذه العبارة من الزاوية التي يرى منها. وإذا ما أردنا أن نعرف معنى “الإنكار” فهو تأتي بمعنى النفي، فـ” إنكار الذات” إذن هو نفيها. ويشبه القائد هذه النفي بالخيانة العظمى لأنها تأتي من أصحاب القضية أنفسهم. وسوف نذكر بعض الأمثلة حتى يتضح لنا معنى ما تكلمنا عنه:
عندما تعرضت الجزائر للاحتلال الفرنسي عام 1830م ميلادي وحتى العام 1962م ميلادي أي استمر 132عاماً حيث يعتبر من أطول الاحتلالات في التاريخ الحديث، حيث قاوم أبناء الجزائر الاحتلال بشتى الوسائل قدَّم من خلالها الكثير من التضحيات، ولن ندخل في تفاصيل الاحتلال، ولكن كانت سياسة فرنسا في الجزائر سياسة واضحة منذ البداية وهي “محو الثقافة الجزائرية في أدق تفاصليها وتحوليها إلى الثقافة الفرنسية بشكل كامل” وأصبح ذلك يُعرف “بفرنسة الجزائر” واعتمدت من أجل تحقيق ذلك إلى عدة خطوات وأهمها:
1-ارتكاب الجرائم والإبادة الجماعية لتغيير ديموغرافية البلاد حيث يقول الكاتب محمد ناصر بو غزالة على لسان أحد الضباط الفرنسيين في كتابه “جرائم الاحتلال الفرنسي في الجزائر:” لقد كانت حملتنا تدميراً منظماً أكثر منها عملاً عسكرياً، نمضي أوقاتنا في حرق القرى والأكواخ، ويقول: آه أيتها الحرب كم من نساء وأطفال تجمعوا في جبال الأطلس العالية المكسوة بالثلوج فماتوا هناك من البرد والجوع).
2- محاربة الثقافة الجزائرية من لغة وعادات وتقاليد وأعراف وتُعتبر هذه الخطوة من أكثر الخطوات خطورة لأنها تهدف إلى محو تاريخ وإرث شعب كامل.
ولكن من المفارقات التاريخية ظهور جزائريين كانوا مؤيدين لما تقوم به فرنسا، بل أصبحوا يساندون هذه الأمر حتى وصل حد التعاون معهم والدخول في صفوف الجيش الفرنسي لقمع شتى مظاهر المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، وحاربوا أبناء جلدتهم حيث أُطلق عليهم اسم “الحركى”، وقيل إن عددهم بلغ حوالي 200 ألف شخص، وكانوا على قناعة تامةً بأن الجزائر يجب أن تبقى جزءاً من فرنسا، ولكن بعد خروج القوات الفرنسية ذهب البعض منهم إلى فرنسا وبقي القسم الآخر يواجه مصيرهم المجهول، وما زلت مسألة “الحركى” قائمة إلى يومنا هذا، حيث أنهم منبوذون من الجزائريين كونهم خونة، والذين في فرنسا ظلوا مهمشين لأنهم يذكِّرون الفرنسيين بتاريخهم الشائن، ومع تفاقم أزمة الحركى حاول الرئيس الفرنسي “ماكرون” رأب الصدع، حيث تعهد بإصدار تشريع يعترف بدور الحركى في مساندة فرنسا. ألا ينطبق كلام القائد عبدالله أوجلان على هذه النوع كون هؤلاء الأشخاص هم جزائريون، ولكنَّهم أنكروا عن أنفسهم وللجزائريين أحقيتهم في بلادهم وتاريخهم؟.
ومثل هذه الحالات ليست محصورة في شعب واحد دون الشعب الآخر، لا، فكل شعب من شعوب العالم وكل رقعة جغرافية من هذه العالم تعرضت وما تزال تتعرض لمثل هذه الخيانات وبشكل أكثر تكتيكاً، و” أخشى ما أخشاه أن يأتي يوم تصبح فيه الخيانة وجهة نظر” على كثرة الخيانات في زماننا. يقول نابليون بونابرت في وصف الخائن:
” مثل الذي خان وطنه وباع بلاده مثل الذي يسرق من مال أبيه ليطعم اللصوص فلا أبوه يسامحه ولا اللص يكافئه”.
وكردستان والكرد تعرضوا للخيانة، ليس فقط من الدول المقتسمة كردستان بل كانت الخيانة الأكبر من بعض الكرد، فعلى مدار التاريخ وعلى مدى قدم الكرد تعرضت الإمبراطورات والإمارات والدول الكردية للخيانة عبر الأزمنة والتاريخ، مثل ما حدث مع الإمبراطورية الميدية في عهد الإمبراطور “أزدهاك”، تعرضت للخيانة من قبل قائد الجيش الميدي “هارباك”، وكان نتيجة هذه الخيانة سقوط الإمبراطورية الميدية بيد كورش 549 قبل الميلاد، وانتفاضة بوطان التي قامت ضد العثمانيين بقيادة بدرخان 1842-1847م، تعرضت هذه الانتفاضة للخيانة من يزدان شير وهو ابن عم او ابن اخت بدرخان، ولكن اليوم الخيانة تحلَّت بحُلَّة جديد؛ حيث تعتمد الدول المقتسمة لكردستان إلى استمالة الشخصيات الكردية بالمناصب الكبيرة من أجل شراء ولاءاتهم، وأظهر موقف الكرد المطالبين بالحرية بالموقف الضعيف، وتصور للعالم بأن الكرد يمارسون حياتهم بحرية تامةً، فيقول القائد عبدالله أوجلان بهذه الصدد:” بالإضافة للمؤامرات التي حِيكت وما تزال تُحاك ضد الكرد، هي إحدى الأسباب التي أدت بالكرد إلى التهميش الذي وصل حد الإبادة، وكما خيانة بعض النخب الكردية من سياسيين كرد، رجال دين، إقطاعيين، مثقفين….إلخ، للقضية الكردية. والقائد في مرافعاته التي تحمل عنوان “الكرد بين فَكَّي الإبادة الثقافية” يطلق على هذه النخبة “طبقة العملاء”، وهم مجموعة من القوى التقليدية الكردية التي سعت الدول المقتسمة لكردستان للسيطرة عليهم من خلال شراء ولاءاتهم مقابل امتيازات يحصلون عليها؛ كتعيين بعضهم في مناصب إدارية أو كنواب في البرلمانات، أو وزراء أو موظفين في مناصب كبيرة لقاء تخليهم عن هويتهم وثقافتهم، بل حتى أنهم ساعدوا على صهر وإبادة الثقافة الكردية، ولذلك يقول القائد:” إنكار الذات خيانة عظمى” ويعتبر هذه الوصف هو الوصف الدقيق الذي ينطبق على أولئك الأشخاص الذين أنكروا لغتهم وهويتهم وثقافتهم وتاريخهم من أجل غاياتهم ومصالحهم.
وفي الختام الخيانة خيانة مهما كانت الأسباب، ومهما تعددت الوجوه والأقنعة، ولعلاج هذه الظاهرة يجب علينا معرفة تاريخنا وجوهرنا وحقيقتنا حيث يقول القائد عبدالله أوجلان:” معرفة الذات هي معرفة جميع المعارف”.